الفصل الواحد والعشرين
("تمنيت لو كنت طائر نورس، يغدو خماصًا ويعود بطانا، لكنى سرعان ما جفلت عندما رأيت العديد من النوارس تحلق حائرة بحثًا عن طعامها")
لم يحضر الحاج سعيد صلاة الفجر، تفقدته فوجدت مكانه شاغرًا، أول مقعد في الصف الثانى من مجموعة الكراسي المتراصة للمصلين جلوسًا على يمين المدخل. "ربما حبسه أمر ما أو استيقظ متأخرًا ففاتته الجماعة" قلت في نفسى وخرجت متدثرًا بالمعطف الصوفى والكوفية. عند ناصية الشارع، لمحت سائق تاكسى خرج لتوه من المسجد يستعد لاستقبال يوم عمل جديد بينما لا تكف شفتاه عن تسبيحات ختم الصلاة، بعضها مسموع وبعضها خفى، ألقيت عليه التحية واستأذنته توصيلى إلى الكورنيش، لم يكن لدى رغبة في القيادة، شيء ما يدفعنى إلى تغيير نمط عاداتى، ما زالت الطرقات تحتفظ بهدوئها بينما تكسوها أجواء ديسمبر بأمطاره وصقيعه، يفرض طقسه على الجميع. تجمعت بقايا مياه المطر على الجانبين وانعكست على صفحتها اضواء أعمدة الإنارة الصفراء، رائحة الصباح طازجة وزكية؛ فيها تفاؤل ورغبة في الحياة رغم البرودة وغبش الفجر.
ما زال السائق العجوز يتمتم بأوراده، يقبض مقود السيارة بكفيه، يرتفع إصبع وينزل آخر في توافق مع حركة شفتيه وانتقال تمتماته من التسبيح إلى الحمد إلى التكبير مختتما بحوقلة أعقبها خيط أدعية متنوع وطويل علق فيه كل أمنياته حتى مسح وجهه وصدره بكفيه، ناهز الستين من عمره أو تخطاها بقليل، ذو وجه خشن ممصوص لوحته الشمس، وشارب أبيض معقوف أقرب ما يكون إلى قوس، كأنما تكشيره رسمت على مدار أيام خابت فيها الآمال.
انحدرت السيارة يمينًا إلى طريق الكورنيش الخالى إلا من بضع سيارات أضاءت كشافاتها في غبش الفجر فامتدت خيوط ضوئها الأصفر أمامها، تكتنف الكورنيش حركة هادئة، على اليسار يلقى فنار بيروت الجديد ضوءه القوى في قلب البحر، خلال حرب يوليو 2006؛ أو تموز كما يطلق عليها اللبنانيون، قصفت إسرائيل الفنار بعد إغراق إحدى سفنها الحربية بصاروخ أصابها في مقتل فغرقت بمن فيها، وأُعيد تجديده.
فى الجهة المقابلة، يقف الفنار القديم وسط العمارات كالحًا بلا حول ولا قوة، قررت البلدية ردم جزء من البحر فزحف الشاطئ بضع مئات من الأمتار وتخلف الفنار، كسبت بيروت مساحات إضافية وخسر الفنار القديم وظيفته؛ أُحيل للتقاعد، تركوه شاهدًا على تاريخ طويل بعد ما حاصرته البنايات، يقف بينها بلا حول ولا قوة، شيخ مُعمِر مغمض العينين.
رغم مضى عدة سنوات على الحرب، أشعر أن لبنان تعيش دائمًا على الحافة، حولها سوار من نار وفى جوفها جمر لا تنطفئ جذوته.
نزلت أمام كافيتريا آنكل ديك، لمحت شفيق وحوله بعض أفراد الشلة، بدوا كعادتهم منهمكين في أحاديثهم، عبرت الطريق تجاههم ووقفت على الجزيرة منتظرًا فرصة لعبور الطريق، لمحنى شفيق فأشار نحوي بيسراه محييًا وبينما يصب بيمناه القهوة الساخنة في الأكواب أطلق صيحته المعتادة،
- صباحووو
ابتسمت ملوحًا له ثم عبرت الشارع، فعاجلنى متسائلاً عن الحاج سعيد وعلى وجهه ابتسامة كبيرة ماكرة وغامزًا بعينه وفى نبرته تلميح،
- وينه صاحبنا، كان عنده شغل واتأخر
عقب أبو فادى ضاحكًا وكأنما يقتص لنفسه
- لا، لساه في الشغل
ضحك الجميع، فأجبت مبتسمًا
- والله ما بدرى، لعله خير
- خير إن شالله خير، ما تقلق عليه، دا نمر
- من بقك لباب السما
عقب شفيق ضاحكًا بصوت مسموع:
- ونعم الصحوبيه
- ....
تجاذبنا أطراف الحديث ووزع شفيق دور ثالث من قهوته متعمدًا التعريض بالحاج سعيد، فتسائل في صوت تغلب عليه المرارة المصطنعة، عن قطع البسكويت التى دائمًا ما كان يوزعها مصحوبة بالدعاية للمحل، فأثار شيئًا من الدعابة الممزوجة بالضحك لم يقطعها إلا صوت ميشيل الرزين يلومه بمودة كيف يتذكر البسكويت وما زالت آثار عزومة أبو فادى الأخيرة في أفواهنا.
أطلق شفيق آهه طويلة بدت كأنه يسترجع بها الماضى القريب محاولاً العودة إليه من جديد وراح يسرد بعض وقائع وطرائف مُراعيًا، عن عمد، أن يكون الحاج سعيد طرفًا فيها، قلده وهو يشرب الحساء، ثم وهو يمد يده إلى بعض الطيور فيأكل منها ما يناسبة ويعطى من حوله نتفًا يسيرًا منها، لا يكاد يتوقف فمه عن المضغ ولا عينيه عن التجوال في أنحاء السفرة العامرة بشتى الصنوف من طعام وشراب مترافقة مع حركة ذراعيه يمينًا وشمالا، من أمامه وأمام غيره، وربما من خلفه؛ حين يبدى استحسانه بصِنفٍ مُعين وقد أوشك على النفاذ من على المائدة فينادى أبو فادى الخادمة الآسيوية لتحضر طبقًا إضافيًا فما أن تقبل به حتى يتناوله الحاج منها، مُلتفتًا بجذعه ليتناول الطبق من وراء ظهره ليضعه أمامه وما زالت عيناه تمسحان الطاولة مخافة أن يفوته صنف، تحسبه قائد أوركسترا يعزف على أوتار أفضل الأكلات.
أثناء ذلك يتعرق وجهه فيمسحه بفوطة السفرة بين الفينة والأخرى، وكأن ما نعيشة من برد وزمهرير خرافة، وما هى إلا دقائق حتى يظهر أثر العرق على كتفيه فيكتسى كُمى قميصه بلون داكن بعض الشئ ويتعرق ساعداه، فإذا ما انتهى من طعامه واطمأن أنه لم يغادر صنفًا، حلوًا كان أو مالحًا إلا وقد أصاب منه ما قَنَعتْ به شهيته، وما تقنع من قليل، زحزح كرسيه بجسده للخلف مقدارًا لا بأس به يسمح له استخلاص كرشه المدور من أسفل الطاوله، بعد ما زادها الأكل استدارة وانتفاخًا، ينهض من مكانه مادًا ساعديه أمامه ضامًا أصابع كفه ضمًا خفيفًا ويقصد دورة المياه.
تراه فتظنه خرج لتَوه من مطاردة لم يسترح فيها هنيهة ولم يهنأ فيها بطمأنينة، يغسل يديه أو ساعديه، إن شئت الدقة، ثم يُنعم على وجهه بحفنات من ماء، تجوس معها كفيه المكتنـزتين بقفاه ورقبته ومقدمة صدره، حتى تحسبه مقبل على استحمام، فإذا ما أحس بتجدد نشاطه عمد إلى الفوطة يجفف بها وجهه وما تبلل من جسمه، يحكها حكًا شديدًا فيحمر وجهه وصلعته ثم يلقى بالفوطة البائسة على المشجب من غير اهتمام فتظل على حالها حتى تأخذها الخادمة وتضعها في الغسالة مع غيرها من مخلفات حرب العشاء.
يتهادى الحاج في مشيته من دورة المياه الملحقة بصالة الطعام إلى صالون الضيوف وسط قصف تعليقات شفيق وكثير من غمز سيدانى وبعضًا من تلميحات ميشيل وإيقاعات ضحك الجميع، يستقر على الكنبة، لا تعرف أجالس هو أم مُتكئ، يجلس على طرفها مُرجعًا ظهره للخلف، مُسندًا رأسه إلى ظهرها، مُتكئًا بكوعه على مسندها، ممددًا ساقيه القصيرتين بميل خفيف؛ ينأى بهما عن ملامسة أرضية الغرفة، تراوح عينيه بين الإغماض حينًا والصحو حينًا آخر، تأخذه سِنَنُ نوم، واحدة تلو أخرى، لا يوقظه منها إلا صوت صينية القهوة والفاكهة تضعهما الخادمة، فيحتسى من القهوة رشفات تختلط بما قذفه في فمه من نفحات قلوب البندق واللوز والكاجو، فإذا ما انتهى من قهوته إزدرد من الفاكهة ما يُرضيه عن نفسه، ويظل على هذا الحال حتى يأتى أوان الانصراف فيقبض قبضة عظيمة من طبق المكسرات ويلقى بها في جيب سرواله، فإذا ما استقر في السيارة، تحركت يمناه بين جيبه وفمه بآلية لا يوقفها إلا نفاد مخزونه أو وصوله إلى بيته.
لا يذهب العزائم بسيارته بل بصحبة آخرين، فإذا كانت دعوة أسرية قاد السيارة في الذهاب وقادتها زوجته في العودة، فغالبًا ما يعود نصف نائم ونصف يقظ، تخرج يده من جيبه بحبة مكسرات ثم تَعْلَق في طريقها إلى فمه، وإذا رأسه يسقط دون إرادته وتوشك عيناه أن تُغلقا، فإذا ما تغيرت حركة السيارة، أو تعمد شفيق النحنحة أو الحديث بصوت عال، قاصدًا إيقاظه، أفاق وهز رأسه ممسكًا بتلابيب الصحو، إلا أنها ليست سوى لحظات حتى يسطو عليه النوم مجددًا، فيسلبه يقظته دون أن يشعر ويبقى الأمر سجال بين النوم واليقظة حتى يصل بيته فينزل من السيارة متثاقلاً يُنقل خطواته بين السُكر والإغماء.
ترددت ضحكات المجموعة على أصداء ذكريات وليمة الأمس، وارتفع قرص الشمس بأكثر مما اعتدناه في أيام العطلات وعلا إيقاع رواد الكورنيش، فأطفأ شفيق موقده الغازى الصغير، وشرع في غسل الأكواب والكنكة الكبيرة المسحوبة من أحد جوانبها كمنقار هدهد، فعلم الجميع أن المجرة الأم أذنت لأبنائها من الكواكب والأجرام أن تنفرط، كل في مسار، على وعد اللقاء في اليوم التالي. فوقف من وقف طاويًا كرسيه الخشبى ووضعه في شنطة سيارة شفيق العتيقة الساكنة إلى جوار الرصيف، عرض أبو فادى توصيلى فشكرته، إلا أن شفيق لم يفوتها وعلق ساخرًا، (عنك أنت يا أبو فادى أوصله أنا وبالمرة اطمن على الحاج سعيد)، فانفجر الجميع في ضحك عال.
انفض الجمع كما تكرر مئات المرات السابقة. انصرفوا جميعًا، منهم من استقل سيارته، ومنهم من ركب مع آخر ليوصله أو على الأقل ينقله إلى أقرب مكان لبيته.
منذ لقاء مايا أمس ويكتنفنى انقباض، قفزت صورتها إلى ذاكرتى وتداعت صور الماضى والحاضر، ألوانًا زاهية أول الأمر ما لبثت أن بهتت مع اضطراب علاقتنا.
كان لقاءنا الأخير بالأمس على الفطور صاعقًا لكلينا، انهارت عندما أخبرتها نيتى الابتعاد، استغرق الأمر وقتًا كى تتماسك وتستطيع العودة إلى بيتها، رفضت أن أوصلها، استقلت تاكسى ومن وقتها انقطع التواصل بيننا، حاولت مرارًا أن اكلمها هاتفيًا، تلقيت رسالة واحدة "التليفون مغلق". (ليس هذا أول فشل تواجهه)،قلت لنفسى، ثم خاطبتها مستهزءًا (محسوبك سوابق).
دسست كفاي في جيب المعطف وسرت خطوات إلى سور الكورنيش، هبت ريح باردة فانكمشت، على البعد كانت هناك سفينة تسير ببطئ محملة بحاويات عملاقة بدت كعلب كبريت صغيرة رُصت فوق بعضها في نظام، قاربا صيد صغيران يقاومان الموج، أنهمك أحد الملاحين في فرد شِباكه بينما راح الآخر يجدف بعيدًا، تحلق طيور النورس بألوانها البيضاء الزاهية وأجنحتها الرمادية مصوبة عينيها إلى قلب الموج المضطرب بحثًا عن أسماك شبوط وبساريا تردع بها صخب جوعها، تابعت حركتها المضطربة بين استعدادها للانقضاض وتراجعها المفاجئ مع تغير مواقع فرائسها ومحاولاتها حفظ توازنها، غرس أحدها منقاره الأصفر المدبب في كبد الماء وخرج تلمع بين أسنانه الناعمة الدقيقة سمكة صغيرة فضية تتلوى، طار بها نحو أقرب تجمع للصخور معتزًا بانتصاره وثبتها بإحدى ساقيه وراح يراقب، فيما تتلوى هى بحثًا عن معجزة للنجاة، لكن هلاكها كان أقرب إليها، غرس منقاره فيها وراح يأكلها متلذذًا، تمنيت لو كنت طائر نورس، يغدو خماصًا ويعود بطانا، لكنى سرعان ما جفلت عندما رأيت العديد من النوارس تحلق حائرة بحثًا عن طعامها.
واصلت التمشية على الكورنيش، تلفح ريح الخريف الباردة المحملة ببقايا رذاذ الموج المتكسر على صخور الشاطئ وجهى، لم يردع البرد قِلة من رواد الشاطيء من السباحة واللهو، تمتزج صرخات عبثهم بصرخات لسعات الماء البارد، فرددت بصوت شبه مسموع شطر بيت شعر (ويفوز باللذات كل مغامر)، فيما أنا مهزومًا مدحورًا، مضعضع النفس والقوى.
لمحت بائع القهوة المتجول يسير حاملاً في يمناه براد كبير له فم بجعة، طارقًا بيسراه فنجانين من الصينى طرقًا خفيفًا يتركان في آذان عشاق القهوة موسيقى شجية، ابتعت كوبًا ورقيًا كبيرًا، قبضت عليه بكفيّْ مستدفئًا به، زكمت أنفى رائحة القهوة الذكية، تذكرت مايا وعاداتها حين تتناول قهوتها، تمسك الكوب بكفيها وتقربه من أنفها الدقيق مغمضة عينيها كأنما تسبح في غيمة من بُن.
الطريق طويلة تستغرق حوالى ساعة سيرًا على الأقدام حتى أرجع إلى بيتى، رغم طول المسافة لم أكن متلهفًا للعودة، آثرت التمشية على الكورنيش، تخطيت النادى الرياضى العسكرى وسرت بمحاذاة مجمع الصيادين، في الخلفية وقف بعض هواة الصيد على الكتل الصخرية غير مبالين بالموج وغضبه منتظرين ما يجود به البحر من عطايا، فتذكرت طفولتى وصيد السمك من النهر الصغير المار بمحاذاة قريتنا كلسان سحلية أسطورية رفيع.
تجاوزت مطعم (Bay Rock)، كم قضينا هنا ساعات طويلة نشرب، أنا ومايا، العصائر والقهوة، تستل سيجارة تلو أخرى من علبتها وتشعلها في هدوء، تتناولها بين إصبعيها العاجيين المسلوبين كإصبعي ملبن، تتكئ بمرفقها على الطاولة وتنظر في عينى، أوقاتًا صنعت بهجتنا لسنوات وأزكت فينا نار الحب والوصال، تغيب فاتفقدها، وأغيب فلا تهدأ حتى تلقانى أو تسمع صوتى، تباغتنى في شقتى، تُعمل المفتاح في الباب ثم تدخل مُلقية تحية المساء أو الصباح، حيثما اتفق، كأنه بيتها، لا تستأذن قبل مجيئها، تتحرك فيه دون إحساس بالغربة وتعرف كل ما فيه، كثيرًا ما عقبت ضاحكة على تعليقاتى،
- الست اللى ما تعرف إيه في بيتها ما لها تقعد فيه
داعبتها غير مرة حينما سقطت من علبة سجائرها ذات قصاصة الورق الصغيرة،
- بدى أعرف إيه حكاية هاى القٌصاصة !!
كم سقطت هذه القصاصة غير ذات مرة دون أن أعيرها أى اهتمام، كانت تنحنى مضطربة وتلتقطها ثم تعيدها للعلبة أو تضرم فيها نار ولاعتها، تنظر في عينى بمرح يخالف لوعة عينيها وتجيب،
- هايدى أسرار حريمى
فنضحك أو تفتعل الضحك. آه من هذه الأسرار ومن تلك القصاصة، ربما لو كنت اطلعت على ما فيها، ولو مرة واحدة، ما كنت عشت هذه المأساة.
جلست على المقعد الحجرى أمام صخرة بيروت، رمز العابد الساجد كما أراها دائمًا، اقترب منى شاب وسألنى بلكنة سورية إن كنت أرغب في رحلة بحرية أمر فيها عبر الصخرة؛ شكرته بلطف، أعاد المحاولة مؤكدًا انخفاض الأسعار، شكرته ثانية في حزم فانصرف، كَثُرَ المهاجرون السوريون وتغيرت الكثير من العادات والملامح في المدينة.
أرسلت الشمس مزيدًا من دفئها وأخذ منى الجهد بعد ما مشيت لمسافة طويلة شعرت معها بشئ من الجوع، لمحت محل الحلاب في الجهة المقابلة، صار شاهدًا على الإفطار الأخير بينى وبين مايا، بعد ما كان من قبل مستقر هوانا ومرتع ضحكاتنا وينبوع ذكرياتنا، جلست على ذات الطاولة المغطاة بالشمس أمام المحل وطلبت شايًا أخضر ريثما تأتى الكنافة النابلسية الساخنة مع قُرص شهية عُجنت بالسمسم وزيت اللوز وحُشيت بالجبن الحلوم.
ما الذى دفعنى للقدوم إلى ذات المحل والجلوس إلى نفس الطاولة؛ أعُدت شغفًا بالماضى أم لاختبار تحدى الانفصال، رن صوتها في أذنى قادمًا من بعيد ورأيتنى أدخل عليها مكتبها ذات يوم وفى يدى علبة ورقية أنيقة أشتريتها وأنا في طريقى للعمل كى نفطر معًا،
- امممم ... قديش طيبة
- بالهنا .....
- صحتين حبيبى
- تاخدى قهوة
قالت ضاحكة،
- خليها عليا
ثم قامت إلى زاوية الغرفة ووضعت في ماكينة القهوة الصغيرة كبسولتين وبعض ماء، ثم أردفت،
- إسبرسو ولا كابتشينو
- لا ده ولا ده
- إيش تأمر
- أمريكان
- عيونى
- ....
عبق المكتب برائحة البن الذكية ممزوجًا بحضورها وحيويتها وحبها، كانت قادرة على أن تعطى للأشياء معنى جديدًا مغايرًا، تصبغ الجو بألوانها الزاهية فتحوم حولنا أسراب الفراشات الملونة والعصافير والحمام الأبيض، يتسرب عطرها فتمد الأزهار أغصانها تتشممها وتتمسح بها ثم تطلق بعد ذلك عبيرها، تقف فترفع الزرافات رؤوسها متطلعة إلى صباحة وجهها وطول جيدها.
نقدت العامل أجره ومضيت في طريقى إلى بيتى، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة وما زال أمامى حوالى نصف ساعة سيرًا على الأقدام حتى أصل إلى شقتى، أخرجت هاتفى وبحثت فيه عن شيء اسمعه، وضعت السماعات في أذنى فانسابت موسيقى أندلسية رشيقة يغلب على إيقاعها عود وناى حزين ومضيت في طريقى.
بالقرب من المنزل عرجت على محل الحاج سعيد للسؤال عنه، وجدت المكتب شاغرًا والعمال منهمكون في اجابة طلبات الزبائن، هش أحدهم في وجهى وقال من بين حواره مع الزبائن،
- صباح الخير
- صباح النور .. وينه الحاج
- طلع ع الجبل
- إمتى ؟
- بالمسا
- يرجع بالسلامة
- بيرجع عشية
- إن شاء الله
- ...
- سلام
- سلام
قصدت شقتى منهك القوى بعد ما أخذ منى المشى ما أخذ، خلعت معطفى وألقيته، كعادتى، على أقرب كرسى، لكنى توقفت بعد ما نفذت إلى أنفى رائحة أعرفها جيدًا ولا يمكن أن أخطأها ولو بين ملايين الروائح، رائحة ذات بصمة واحدة لا تتكرر، رائحتها هي، ولا أحد غيرها.
قلبت عينى في المكان، بدت غرفة الاستقبال في شيء من نظام خلاف ما تركتها عليه، بالأمس كان موعد تريزا، لكنى تركت الشقة فجرًا على غير هذه الحال، ثم خطر لى خاطر فضيقت عيناى وهمهمت ( هل تُراها جاءت ؟ ).
عَمدت إلى حيث اعتادت وضع حذائها فوجدته كعادته؛ كأنما خُلع من غير اهتمام، واحدة مائلة على أحد جانبيها والأخرى واقفه في الاتجاه المعاكس، كان باب غرفة النوم مواربًا فيما تسرب إليها بعض الضوء من شيش النافذة، أزحت الباب بهدوء فصُعٍقت. كانت نائمة تغط في نوم عميق، وكعادتها، رائعة وشهية، ترتدى قميص نوم بنفسجى اللون، سقطت إحدى حمالتيه على ذراعها وزادها شعرها الناعم المنسدل من غير انتظام على وجهها جمالاً على جمال.
يا إلهى، متى عساها جاءت؛ كم أنت عنيدة وعصية، بهدوء انسحبت من الغرفة، واربت الباب، أخذت دشًا دافئًا فاسترخت عضلاتى المشدودة من أثر السير الطويل وقلة ساعات النوم، ارتديت بيجامتى، فردت الأريكة الكبيرة بحجرة الاستقبال وأطفأت الأنوار فغرقت في الظلمة، تمددت كأنى أخرج من جلدى ومن عظامى، ثم تكورت على جانبى الأيمن كجنين، وخلدت إلى نوم عميق.
إلى لقاء في فصل جديد